سورة البقرة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين، والكلام فيه من وجوه:
أحدها: أن يقال: من القائل: {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}؟.
وثانيها: ما الفساد في الأرض؟.
وثالثها: من القائل: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}؟.
ورابعها: ما الصلاح؟.
أما المسألة الأولى: فمنهم من قال: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال: إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم: {لاَ تُفْسِدُواْ} فإن قيل: أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك؟ قلنا: نعم، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} [التوبة: 74] وقال: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} [التوبة: 96].
المسألة الثانية: الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [محمد: 22] نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به.
وثانيها: أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرئ الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض.
وثالثها: قال الأصم: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه.
المسألة الثالثة: الذين قالوا: {إنما نحن مصلحون} هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان: أحدهما: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد.
وثانيهما: أنا إذا فسرنا {لاَ تُفْسِدُواْ} بمداراة المنافقين للكفار فقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 62] فقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي نحن نصلح أمور أنفسنا.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم.
وأما قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} فخارج على وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض، إذ فيه كفران نعمة الله، وإقدام كل أحد على ما يهواه، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد؛ ولهذا قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض} على ما تقدم تقريره.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين: أولهما: ترك ما لا ينبغي وهو قوله: {ءامَنُواْ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كما آمن الناس} أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيماناً لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله: {ءامَنُواْ} كافياً في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله: {كَمَا ءامَنَ الناس} لغواً، والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله: {كَمَا ءامَنَ الناس}.
المسألة الثانية: اللام في {الناس} فيها وجهان:
أحدهما: أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه؛ لأنهم من أبناء جنسهم والثاني: أنها للجنس ثم هاهنا أيضاً وجهان:
أحدهما: أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا، منهم وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.
والثاني: أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي.
المسألة الثالثة: القائل: {ءامِنُواْ كما آمن الناس} إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء}.
المسألة الرابعة: السفه الخفة يقال: سفهت الريح الشيء إذا حركته، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رياح تسفهت *** أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي:
سفيه الرمح جاهله إذا ما *** بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [النساء: 5] وقال عليه السلام: «شارب الخمر سفيه» لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلم باطل، والباطل لا يقبله إلا السفيه؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب وقوله الحق لوجوه:
أحدها: أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه.
وثانيها: أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه.
وثالثها: أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.
المسألة الخامسة: إنما قال في آخر هذه الآية: {لاَّ يَعْلَمُونَ} وفيما قبلها: {لاَّ يَشْعُرُونَ} لوجهين:
الأول: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس.
الثاني: أنه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.


{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة، يقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وقرأ أبو حنيفة: وإذا لاقوا أما قوله: {قَالُواْ ءامَنَّا} فالمراد أخلصنا بالقلب، والدليل عليه وجهان:
الأول: أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك.
الثاني: أن قولهم للمؤمنين آمنا يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب، أما قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} فقال صاحب الكشاف: يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن خلوت به إذا سخرت منه، من قولك: خلا فلان بعرض فلان أي: يعبث به، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك.
وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} ففيه سؤالان: السؤال الأول: هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم.
الجواب: في هذا خلاف، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة، ومن يقول في الشياطين: المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا.
السؤال الثاني: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة بأن الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقاً به.
أما قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} ففيه سؤالان.
السؤال الأول: ما الاستهزاء؟
الجواب: أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم.
السؤال الثاني: كيف تعلق قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} بقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} الجواب: هو توكيد له؛ لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على الكفر وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا: إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء.
أحدها: قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} وفيه أسئلة.
الأول: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] والجهل على الله محال والجواب: ذكروا في التأويل خمسة أوجه: أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقال عليه السلام: «اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني» أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام: «تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا».
وثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب.
ورابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى قوله: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُون} [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء بهم.
السؤال الثاني: كيف ابتدأ قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟
الجواب: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
السؤال الثالث: هل قيل: إن الله مستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} الجواب لأن يستهزئ يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم: {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا قُلُوبِهِم في قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] الجواب الثاني: قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قال صاحب (الكشاف) إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها؛ ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد.
وقال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنين: 55] ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين:
الأول: أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن (ونمدهم) وقراءة نافع (وإخوانهم يمدونهم في الغي) يدل على أنه من المدد دون المد.
الثاني: أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له.
قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِي الغى} أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى.
وثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلاً لله تعالى فكيف يذمهم عليه.
وثالثها: لو كان فعلاً لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً.
ورابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: في طغيانهم ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِي الغى} [الأعراف: 202] إذا ثبت هذا فنقول: التأويل من وجوه:
أحدها: وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم.
وثانيها: أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور.
وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
ورابعاً: ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر.
الثاني: هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا.
واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} فلا فائدة في الإعادة.
واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} [الحاقة: 11] أي جاوز قدره، وقال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] أي أسرف وتجاوز الحد.
وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8